لم نتردد، حين اخترنا بحوث كتابنا هذا، في أن تكون جميعها مُخْـلـَصة لمقاربة ظواهر شعرية أموية، ذلك لأن عصر الأمويين أحفل من سواه، من العصور الأدبية العربية، بظواهر شعرية نادرة، تشي بحيوية الشعر الأموي وغناه وعمقه.
وحيوية الشعر الأموي هذه، ليست مستمدة من حفول عصره بهذه الظواهر الشعرية فحسب، بل من كون هذا العصر حقلا أنبت غراساً أدبيا لم تعهد مثله العصور السابقة، ومن هذا الغرس شعر السياسة، وشعر الغزل بمدارسه وتياراته الجديدة، كالغزل الحسي والغزل العذري، والغزل السياسي،بنوعيه الكيدي والأيدي، وكغزل الشكران وغزل المشاكسة، ولانتورع أن نذكر النقائض بثوبها الفني الجديد، وسعة انتشارها في الناس وما أفرزته من فنون جديدة، كالسخرية و(الكاريكاتير)، وقد استأثرت هذه الاغراض بقصائد كاملة، لا تشاركها فيها أغراض أخرى طارئة أو ممهدة.
ومن ثم فإنه يسوغ القول: إن هذا العصر كان عصر الشعر الذهبي بين العصور العربية الأدبية، وإن الشعرية العربية كانت عنده أمام منعطف كبير من منعطفات تحولاتها.
وعلى الرغم من هذه الفرادة، التي تميز هذا العصر الأدبي، وما يحفل به من ظواهر التجديد والابتكار الشعريين، لم تلامس الدراسات الجديدة، على كثرتها،على نحو جاد، كل مظاهر الجدة والإبداع، ولم تكتشف كل ما يحفل به شعر العصر من سمات التميز والبكارة والطرافة، فالدراسات تكاد تجمع، مثلا، على أن ريادة التجديد، في الصورة والتعبير والتخييل، تتمثل في جهود أبي تمام، وأن حامل لواء الثورة على التقاليد، التي كانت تكبل القصيدة العربية، وصانع التجديد فيها، أبو نواس، ولم يتنبهوا لدور عمر بن أبي ربيعة في صناعة قصيدة الغزل الجديدة ذات الغرض الواحد، التي تتحقق فيها الوحدة الفنية إلى جانب الوحدة الموضوعية، ولم يقع أحد منهم على ما حققته القصيدة الرسالة من بنية جديدة في شعر عمر( )، بحيث استحالت القصيدة الى رسالة حب مكتوبة بكل تقانات كتابة الرسالة وشرائطها في عهد عمر بن أبي ربيعة، من استهلال وذكر المرسل والمرسل إليه والعنوان والغرض الرئيس والختام بالسلام.
لقد كان اختيارنا لبحوث هذا الكتاب مبنيا على أن تأتي الظواهر المدروسة متنوعة مختلفة في موضوعاتها وأساليبها وحقولها، لكي تكون المقاربة النقدية شاملة تستشرف أوسع مدى متاح من المشهد الشعري الأموي.
وهكذا كانت لغة المرأة، وأساليب حديثها، وطبيعة حركاتها في أثناء الحديث، في شعر عمر بن أبي ربيعة، مدار أحد بحوث الكتاب، في ما كانت مكملات جمال المرأة من ألبسة وأنواعها وأشكالها وألوانها، وحلي المرأة ومواضع التزين بها، وأدوات زينة المرأة وطيوبها، كما جاءت في شعر عمر مدار البحث الثاني، وفي هذا البحث ملامسة لذائقة المرأة الأموية ولذائقة العصر ولجوانب حضارية طبعت بميسمها حياة المجتمع الحجازي في عصر بني أمية، والبحث على هذا أدبي معني بالجوانب الحضارية والاجتماعية.
وكانت عناية البحث الثالث منصبة على ظاهرة شعرية غريبة احتضنها الشعر الأموي، وهذه الظاهرة ارتجل لها البحث مصطلح غزل المشاكسة، والمصطلح جديد في مبناه ودلالته، أما الظاهرة، فكان شعرها منضويا، بحسب اجتهاد بعض النقاد، تحت جناح الغزل الهجائي، ومحسوبة لدى بعضهم الآخر، في عداد الظاهرة العذرية، إلى أن كشف البحث عن حدودها وخصائصها بعد أن ربطها بالأحداث التاريخية التي تتعلق بها.
أما البحث الرابع، فعني بدراسة خصيصة من خصائص شعر الخوارج، تتمثل بتجلي النص الخارجي في مستويات دلالية مختلفة، بحسب طبيعة المتلقي وكفايته للتلقي، فيبدو للخارجي على نحو، وللعربي المسلم على نحو ثان ٍ، وللمثقف على نحو مغاير. وتعدد مستويات الدلالة، في نص واحد، ظاهرة غير مألوفة في النصوص المعاصرة للنص الخارجي.
ولا نريد أن نصادر حق القارئ الكريم فنفيض في كشف ما نهضت به البحوث من مقاربات فنحرمه نعمة الاستكشاف.
المؤلفان